عام على الارتقاء.. حسن نصر الله بين غياب الجسد وحضور المشروع

إلهامي المليجي – كاتب صحافي مصري
أعاد نصر الله تعريف العروبة نفسها: ليست شعارات جوفاء ولا بيانات رسمية، بل هي التزامٌ بفلسطين، بوصفها مقياس الشرف وامتحان الصدق، ومعيار الانتماء الحقيقي للأمّة.
عام يكتمل على ارتقاء رجل لم يكن مجرّد قائد في زمن مضطرب، بل ظاهرة كبرى غيّرت معادلات الصراع في المنطقة والعالم. في الذكرى الأولى لاستشهاد السيد حسن نصر الله، تبدو اللحظة وكأنها امتحان للأمّة كلّها: كيف تواجه غياب قائد تحوّل إلى رمز أممي، وكيف تصون إرثه الذي صار دستوراً للمقاومة ووصيةً بالدم.
لم يكن نصر الله زعيماً محلياً أو عابراً، بل حلقة من السلسلة التاريخية التي تبدأ من عبد الناصر ولا تنتهي عند قادة العصر الحديث، أولئك الذين جعلوا فلسطين جوهر مشروعهم ورمز كرامة الأمة. ومع أنّ جسده غاب، فإنّ حضوره لا يزال يتردّد في القلوب والميادين، كجرس إنذار للأعداء وعهدٍ للمقاومين: أنّ الحرية تُنتزع ولا تُمنح، وأنّ فلسطين هي الوعد الذي لا يسقط بالتقادم.
إنه عام على الفقد، لكنه أيضاً عام الثقة بأنّ الولادة آتية، فدماؤه لم تجفّ، ورفاقه وأبناؤه يواجهون التحدّي بصلابة تجعلنا نؤمن أنّ الراية لن تسقط، وأنّ المقاومة ستبقى وعداً متجدّداً.
أيقونة تعبر القارات
لم يكن السيد حسن نصر الله ابن الجنوب اللبناني وحده، بل صار ابناً للإنسانية الثائرة كلّها. من بيروت خرج صوته، لكنّ صداه دوّى في هاڤانا وكاراكاس، في جوهانسبرغ ونيودلهي، حيث وجد فيه الأحرار صورة القائد الذي يجمع بين وضوح الفكرة وصلابة الميدان.
لقد رأى فيه المناضلون في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ملامح زعيم يشبه غيفارا في جرأته، ويشبّه بعبد الناصر في حضوره، لكنه تميّز عنهما بأنه قائد مقاومة حيّة، تواجه العدو وجهاً لوجه وتكسر أسطورة “جيوشه” المدجّجة بالسلاح. وبذلك غدا نصر الله أيقونة كونيّة، تردّد على لسان كلّ ثائر رسالة واحدة: أنّ الشعوب مهما ضعفت تستطيع إذا امتلكت الإرادة أن تُسقط الطغاة، وأنّ دماء المقاومين سلاح يتفوّق على ترسانة الإمبراطوريات.
البوصلة المسمّاة فلسطين
في زمنٍ تفرّقت فيه العواصم العربية بين حسابات السلطة وضغوط الخارج، نهض السيد حسن نصر الله ليعيد للأمة بوصلةً ضاعت في متاهات الهزيمة. لم يتردّد لحظة في إعلان أنّ فلسطين هي قلب المشروع، وأنها ليست قضية شعب وحده بل قضية وجود الأمّة بأسرها.
كان امتداداً لروح جمال عبد الناصر، لكنه حمل العبء في زمن أشدّ قسوة: زمن الانقسام العربي، والتطبيع المذلّ، والاحتلال الذي ازداد توحّشاً. ومع ذلك، استطاع أن يعيد الوضوح إلى الوعي الجمعي، وأن يزرع في أجيالٍ عربية متعاقبة اليقين بأنّ الكرامة لا تُستردّ بالتسويات ولا بالموائد، بل بالمقاومة التي تصنع التاريخ وتمنح الشعوب حقّها في الحياة.
لقد أعاد نصر الله تعريف العروبة نفسها: ليست شعارات جوفاء ولا بيانات رسمية، بل هي التزامٌ بفلسطين، بوصفها مقياس الشرف وامتحان الصدق، ومعيار الانتماء الحقيقي للأمّة.
حارس التوازن ومحور النار
منذ لحظة التحرير عام 2000، حين انكسر الاحتلال الصهيوني تحت ضربات المقاومة، ارتسم وجه جديد للشرق. وفي تموز 2006، حين صمد لبنان أربعة وثلاثين يوماً أمام أعتى آلة عسكرية مدعومة أميركياً وغربياً، تحوّل السيد حسن نصر الله إلى حارس التوازن، وأصبح صوته رمزاً لانكسار أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”.
لم يكن قائداً محلياً يُدير معركة حدودية، بل حجر الزاوية في محور كامل امتدّ من دمشق إلى طهران، ومن غزة إلى صنعاء، مروراً ببيروت التي احتضنت الصمود. لقد صاغ شبكة مقاومة عابرة للجغرافيا والمذاهب، وربطها بخيط واحد: فلسطين كهدف، والردع كسلاح، والحرية كغاية.
ومع استشهاده، بدا كأنّ المحور فقد العمود الذي استندت إليه معادلة الردع. لكن حضوره الرمزي ظلّ أقوى من الغياب، كأنّ صوته ما زال يتردّد على الحدود وفي الساحات، يؤكّد أنّ التوازن الذي صنعه بدمه وإرادته باقٍ، وأنّ المحور الذي بناه لن ينكسر.
من غياب الفرد إلى ولادة الجماعة
غياب السيد حسن نصر الله لم يكن انكساراً بقدر ما كان اختباراً، كشف عن قدرة المقاومة على التحوّل من زعامة فردية استثنائية إلى قيادة جماعية راسخة. فالرجل الذي صاغ تجربة بأبعادها الفكرية والعسكرية والسياسية، ترك وراءه مؤسسة ممتدة ورفاق درب وأبناء مشروع يعرفون أنّ الراية لا تسقط بموت حاملها.
التحدّي اليوم لا يقتصر على صون معادلة الردع التي أشرف على بنائها، بل يتعدّاها إلى تحويل إرثه إلى برنامج تحرّري شامل: مشروع أممي يربط بين الميدان والساحة، بين الفعل العسكري والرؤية السياسية، بين الدفاع عن الأرض وبناء الوعي.
لقد أصبح نصر الله بعد ارتقائه أكثر حضوراً مما كان في حياته؛ حضوره المعنوي صار سلاحاً غير مرئي، يثبّت القلوب، ويعطي للمقاومة شرعية لا تهتزّ، ويؤكّد أنّ الدم إذا سال في سبيل فلسطين، يتحوّل إلى طاقة لا تنضب.
حارس الوعد ووصية الدم
عام يكتمل على ارتقاء السيد حسن نصر الله، لكنّ غيابه لم يُغلق صفحة، بل فتح فجراً جديداً في كتاب المقاومة. لقد أراد العدو باغتياله أن يقطع شريان المحور، فإذا بالدم يفيض شلالاً يغذّي القلوب والساحات. لم يعد نصر الله جسداً في مكان، بل صار معنى يتردّد في كلّ خندق، وصوتاً يجلجل في كلّ هتاف، وظلّاً يحرس كلّ مقاتل.
لقد غدا اسمه مرادفاً لليقين بأنّ الاستعمار يُهزم، وبأنّ فلسطين ليست حلماً مؤجّلاً بل وعداً مقسوماً. صار حارس الوعد ووصية الدم، حاضراً في كلّ طلقة تُطلق من قطاع غزة، وفي كلّ صاروخ ينطلق من الجنوب، وفي كلّ شعار يُرفع في ساحات الأمة.
وإذا كان القرن قد بدأ بجريمة اغتيال فلسطين، فإنّ التاريخ لن يطوي صفحاته إلا حين تُستعاد، محمولةً على أكتاف الشهداء العظام، وفي طليعتهم السيد حسن نصر الله، الذي ارتقى جسداً وبقي مشروعاً، ليثبت أنّ القادة يمضون، لكنّ المقاومة لا تموت.