حين يصبح الاعتماد الصحفي أداة للإقصاء لا للتنظيم

معالي الدكتور وزير الثقافة :
ما يجري في مهرجان مدائن التراث لم يعد قابلًا للتوصيف كـ«اختلالات تنظيمية» أو «هفوات إدارية»، بل بات ممارسة ممنهجة لإفراغ الاعتماد الصحفي من معناه، وتحويله من آلية مهنية لضبط التغطية الإعلامية إلى أداة انتقائية لإقصاء الصحافة المستقلة وتدجين المشهد الإعلامي.
فليس من قبيل الصدفة أن تُمنح بطاقات الاعتماد لأشخاص لا علاقة لهم بالعمل الصحفي، ولا يحملون أي صفة مهنية أو مسؤولية تحريرية، في مقابل إقصاء مؤسسات إعلامية راكمت رصيدًا من المصداقية والجرأة والاستقلال. هذا التناقض الصارخ لا يعبّر عن فوضى عابرة، بل عن اختيار واعٍ: اختيار إعلام لا يسأل، ولا يزعج، ولا يقترب من مناطق الخلل.
الأخطر في هذه الممارسة أنها تتكرر للسنة الثالثة على التوالي، ما ينزع عنها صفة الخطأ، ويمنحها صفة السياسة غير المعلنة. سياسة تقوم على إعادة تعريف الصحافة وفق معيار الولاء بدل المهنية، والامتثال بدل الاستقلال، والصمت بدل الرقابة. وهنا لا يعود السؤال: من مُنح الاعتماد؟ بل: من يُراد إسكاتُه؟
إن التخلي المتعمد عن اعتماد المؤسسات الصحفية، واستبداله ببطاقات بلا هوية مؤسسية، ليس إجراءً بريئًا، بل خطوة محسوبة لتذويب المسؤولية وتفكيك المرجعية المهنية، وفتح المجال أمام منح الاعتماد لأي شخص، طالما لا يحمل صفة الصحفي المزعج. وبهذا، يتحول المهرجان من فضاء ثقافي جامع، إلى مساحة مغلقة على إعلام مُفرغ من وظيفته الرقابية.
وإذا كانت المعطيات المتداولة حول تدخل نافذين لتمكين مقربين منهم من بطاقات صحفية صحيحة، فإن الأمر يتجاوز سوء التسيير إلى استخدام النفوذ لإعادة هندسة المشهد الإعلامي على مقاس المصالح الضيقة. وهو سلوك لا يسيء فقط إلى الصحافة، بل يطعن في مصداقية المؤسسات المشرفة، ويضع علامات استفهام ثقيلة حول مفهوم الشفافية ذاته.
إن أخطر ما في هذه الممارسات أنها تُكافئ الرداءة، وتُقصي الكفاءة، وتبعث برسالة فادحة الدلالة: الجرأة ثمنها الإقصاء، والاستقلالية تهمة، والمهنية عبء غير مرغوب فيه. وهي رسالة، إن استمرت، لن تنتج سوى مشهد إعلامي مشوَّه، وتظاهرات ثقافية بلا مساءلة، ودولة تخسر أحد أهم أدوات تصحيح أخطائها.
فالصحافة الحرة لا تُدار بالبطاقات، ولا تُضبط بالإقصاء، ولا تُحتوى بالتهميش. ومن يخشى الكاميرا أو القلم، لا يخشى الصحافة، بل يخشى ما قد تكشفه.
موقع الثوابت الموريتاني
رئيس التحرير







