“حل الدولتين” حل مؤقت ولن يقضي على أسباب الصراع

يرى عرب التطبيع وكياناته في ما يسمونه “حل الدولتين” حلا جذريا “ينصف الفلسطينيين” ويحقق تطلعات كيان الاحتلال في إقامة “دولة يهودية” على أخصب أراضي فلسطين، وهي “الدولة” التي قرر المشاركون في مؤتمر “بانرمان” تأسيسها على ارض فلسطين لتكون قاعدة عسكرية متقدمة للغرب في الشرق العربي تخدم طموحه في الهيمنة على ثروات المنطقة ومنع قيام أي نهضة حقيقية في المشرق العربي واستمرار حالة اللا سلم واللا حرب وعدم الاستقرار في المنطقة، وهو ما جسدته لاحقا اتفاقية سايكس- بيكو.
ولم يأت وعد بلفور 1917 اعتباطا فهو نتاج مخطط سابق لتقسيم المنطقة لاحقا حيث يدرك وزير خارجية بريطانيا “العظمى” ساعتها أن بلاده ستحتل فلسطين بعد سنوات وستنفذ ما تم الاتفاق عليه من إقامة كيان غريب يفصل العرب في المشرق عن اشقائهم في المغرب ويكون مواليا للغرب حيث يدرك قادة هذا الكيان أن بقاءه وبقاءهم مرهون بالدعم الغربي لهذا الكيان المغروس في قلب الخريطة العربية.
لذلك جاءت محاولات ماكرة تتحدث عن “حق تاريخي لليهود” في ارض كنعان معتمدة على مرحلة تاريخية اقام فيها العبرانيون في فلسطين مثل غيرهم من الشعوب التي أقامت في فلسطين، قلب الحضارة والنقطة المركزية فيه، ومهد الرسالات والانبياء. لذلك ربطوا بين إقامة الكيان اللقيط وبين “أرض الميعاد” لتصبح فلسطين “ملكا تاريخيا” لشعب عبر إليها في مرحلة تاريخية وملك بعض مناطقها، كغيره من الشعوب التي مرت هناك وملكت، ثم اختفى كما اختفى من جاء قبله ومن جاء بعده وآخرهم ملوك الحملات الصليبية والمغول والاستعمار الجديد.
لن اتحدث عن استقبال ملكي صادق ملك اليبوسيين من العرب العاربة لإبراهيم عليه السلام في القدس حين جاء عابرا الفرات لينجو بدينه بعد إلقائه بالنار في أرض بابل، فتلك رواية يقصر المقال عن تناولها، لكنها تؤكد أن أرض كنعان كانت عامرة بأهلها قبل قدوم جد العرب واليهود “أبناء النسب وليس أبناء الديانة”.
ما حصل حديثا وحول المنطقة إلى بؤرة صراع وحروب ومآس متواصلة حتى اليوم هو قرار الأمم المتحدة رقم 181 بتقسيم فلسطين سنة 1947 والذي بموجبه تم منح أغلب وأخصب أراضي الفلسطينيين للوافدين اليهود من مختلف دول العالم (كل رؤساء حكومات الاحتلال وكل وزرائه من دول مختلفة ولا ينتمون لأرض فلسطين لا بمولد أجدادهم ولا بأي صلة أخرى سوى الاحتلال).
ولأن هذا التقسيم ظالم وغير مقبول وغير معقول وغير منطقي، فقد قررت بعض الدول العربية القائمة إعلان رفضه ورفض إقامة “دولة” لليهود في أرض فلسطين، رغم أن أغلب تلك الحكومات العربية قد وافقت على قرار إقامة “وطن لليهود في فلسطين” في رسائل متبادلة مع حكومات بريطانيا. لكنها كانت تريد استرضاء شعوبها الغاضبة، لا اكثر ولا أقل، فكانت من نتائج تلك الحروب قيادة الضابط البريطاني غلوب باشا للجيش الأردني في مواجهة العصابات الصهيونية المسلحة تسليحا جيدا وحديثا من طرف بريطانيا والغرب. فتعرضت جيوش الأنظمة العربية للهزيمة وواصل الصهاينة التوسع حتى اليوم.
لم يحترم الكيان اللقيط قرار التقسيم ولم تحترمه الدول الغربية التي بادرت بالاعتراف ب”إسرائيل” رغم أن تنفيذ القرار مرهون لحظة صدوره بالاعتراف بدولة فلسطينية حددها قرار التقسيم الجائر. لكن ما يهم الغرب هو إعلان قيام ” إسرائيل” بغض النظر عن قيام دولة فلسطينية من عدمه. وهو ما تأكد على مدى 75 عاما منذ إعلان اغتصاب فلسطين رسميا وبقرار أممي مدعوم من الغرب الاستعماري.
تم تهجير الفلسطينيين بمئات الآلاف من مدنهم وقراهم وجرت عملية إبادة واسعة النطاق لم تسلم فيها النساء من الاغتصاب والحوامل من بقر بطونهن ولم يسلم فيها الشباب والرجال العزل ولا الشيوخ من القتل والإبادة الجماعية … فكان النزوح إلى أماكن أكثر أمنا خيارا لا مفر منه لغالببة الفلسطينيين العرب. ومازال هؤلاء نازحون حتى اليوم باستثناء من يخضعون منهم للحصار والاحتلال في الضفة الغربية بعد تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق أوسلو او من يعانون الإبادة والتجويع في قطاع غزة. لكن المأساة تتفاقم والصهاينة يواصلون جرائمهم التي تجاوزت فلسطين إلى دول الجوار كما يجري في لبنان وسوريا. أما الجرائم ضد الإنسانية في غزة من قتل وتجويع وحصار فقد أخرست النظام الرسمي العربي كما فضحت النفاق الغربي المكشوف ولم يعد ينطلي على اي فلسطيني زيف الشعارات البراقة عن حقوق الإنسان والقانون الدولي … بل إن الأمر سيستدعي مراجعة منظومة الأمم المتحدة بنفسها التي أصبحت تختصر في إرادة قادة الولايات المتحدة ورغبات الكيان الصهيوني اللقيط. ولم يعد ثمة ما يبرر الحديث عن القانون الدولي وحقوق الإنسان.
إن مؤتمر “الأمم المتحدة لحل الدولتين” المقرر له ان يلتئم يومي 28 و 29 يوليو الجاري لن يتناول أبدا قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 كما لن يتطرق للأراضي المحتلة ما بعد قرار التقسيم وقيام كيان الاحتلال، وإنما سيركز على “المبادرة العربية” بقيادة السعودية والتي تنازل فيها النظام الرسمي العربي عن كل الاراضي المحتلة منذ تاريخ قرار التقسيم وحتى حرب يونيو 1967. أي أن التنازلات العربية مستمرة ولا يستبعد المتابع الموضوعي أن تشهد القمة اعترافات مشوهة بدولة فلسطينية بلا سيادة وبلا قوة وبلا مقومات بقاء لأنها باختصار إرادة الغرب الاستعماري والرجعية العربية العميلة والتي لم تستطع كياناتها الضغط على الإرهابي نتن ياهو لوقف جرائمه في غزة وفلسطين ولو بالتلويح بتجميد “التطبيع”؟! فما الذي يتوقعه الشعب الفلسطيني من مؤتمر تدعو له فرنسا والسعودية وترعاه واشنطن والقوى الاستعمارية الكبرى وتدعمه أنظمة العمالة العربية؟
في الواقع يمكن القول إن أي حل لا يلغي “حل الدولتين” ويقيم دولة فلسطينية ديمقراطية يقيم فيها اليهود الوافدون قبل قرار التقسيم ويعيشون فيها جنبا إلى جنب مع الفلسطينيين المقيمين والنازحين، لا يمكن أن تمثل حلا جذريا وإنما تمثل تهدئة مرحلية ستعقبها جولات أخرى لا يمكن التنبؤ بنتائجها ومآلاتها في الوقت الراهن.
لذلك فإننا أمام محاولة يائسة يحاول فيها الغرب والأنظمة الرجعية العربية غسل ايديهم من دماء الفلسطينيين من خلال “مؤتمر” يغطي الخذلان العربي وجرائم الاحتلال الصهيوني والغرب الاستعماري ويسعى لإقامة دولة فلسطينية منقوصة السيادة والكرامة يمكن احتلالها في اي وقت مقابل التطبيع العربي الشامل مع الكيان الصهيوني اللقيط. ولن تتحقق نتائج هذا المؤتمر وتتجسد مخرجاته إلا بعد ان تتم تسوية ما تبقى من قطاع غزة بالأرض وإعلان تجريد المقاومة اللبنانية من السلاح وإعلان ولاء النظام السوري الجديد وتطبيعه مع “تل ابيب”.
وهكذا يمكن الجزم بأنه لا حل مع ما يسمى “حل الدولتين” لأنه مبني على باطل وما بني على باطل فهو باطل .. وما لا يقبله الشعب العربي، على ضعفه وهوانه، لن يكون قابلا للتنفيذ مهما طال الزمن …
أحمد ولد مولاي محمد
ahmedmly@gmail.com