بين جشع الليبرالية وانعدام المسؤولية … مدرسة حرة تطرد التلاميذ في منتصف الشهر إن لم يسددوا لتأمين الدخل

أقدم مجمع مدرسي حر، من أكبر وأشهر المدارس الحرة في موريتانيا على تبني قرار مفاجئ يقضي بطرد كل تلميذ لم يسدد مستحقات شهر إبريل مع نهاية عطلة الاسبوع الجاري وتم تنفيذ القرار بالفعل قبل الامتحانات وخصوصا بالنسبة لطلبة الباكالوريا.
ولأن التعليم العمومي فاشل وعاجز بإرادة رسمية، فإن المدارس الحرة لم تعد حكرا على أبناء الأثرياء وكبار الموظفين ولصوص المال العام، حيث اضطر أبناء ما تبقى من الطبقة المتوسطة وصغار الموظفين وحتى الفقراء للبحث عن تعليم أفضل لأبنائهم لضمان مستقبلهم وتأمين نجاحهم وبالتالي فقد أصبحت مدارس تجسيد الليبرالية الجشعة بديلا عن فشل المدارس العمومية التي يتغيب المدرسون عنها بحثا عن دخل إضافي في المدارس الخاصة يقاومون به صعوبة الحياة المعيشية وتدني الرواتب في بلد يتحكم فيه الإقطاع ورأس المال.
اغلب وكلاء التلاميذ في المجمع المدرسي المذكور وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة لتمكين أبنائهم من مواصلة الدراسة والتحصيل فإما إن يستدينوا حتى نهاية الشهر واستلام الرواتب وإما أن يذهبوا بأبنائهم إلى مدارس أخرى تسعى لاستقبال المزيد من “الزبناء” مع ما يعنيه ذلك من تحديات اقلها ضرورة توفير مبلغ مقدم عن الايام المتبقية من الشهر الجاري إن لم تتفهم إدارة المدرسة الجديدة الوضع.
وقالت إدارة المدرسة المذكورة إن إدارة التعليم الحر بالوزارة الوصية وضعتها أمام هذا الخيار حيث أصبح بإمكان الطلبة إجراء امتحان الباكالوريا دون أي تدخل من المدرسة الحرة وهو إجراء قد يقوم على إثره طلبة الباكالوريا بعدم سداد الأشهر الأخيرة من السنة الدراسية.
الحقيقة أن هشاشة التعليم العمومي والظروف السيئة لمدرسي هذا التعليم هي التي أدت إلى تفشي ليبرالية التعليم على النحو الجشع الذي نشاهده اليوم دون أدنى مراعاة للقيم والأخلاق التي طبعت مجتمعنا العربي الإفريقي المسلم منذ الأزل.
لذلك فإن القضاء على ليبرالية التعليم والصحة يظل مطلبا ملحا خاصة وأن موريتانيا قدمت بعض أبنائها سجناء وشهداء سنة 1984 رفضا لليبرالية الصحة والتعليم وتحكم رجال الأعمال وكبار الضباط في مصير الشعب والبلد.
أهلا…
لا يمكن الاستغناء عن التعليمِ الخصوصي في موريتانيا؛ والتعليمُ العمومي كما ذكرتم (فاشل وعاجز بإدارة رسمية)، فالتعليم الحر له أياد بيضاء على التفوق والنجاح والتميز في البلاد، فمعظم خريجي الجامعات في موريتانيا جاؤوا من التعليم الحر، ومعظم المتفوقين كذلك، على أن هذا التعليم لا يتلقى دعما لوجستيا ولا بشريا من الحكومات المتعاقبة، خلافا لما عليه الأمر في الدول المجاورة.
والحالة هذه فإن ثمن نجاح التعليم الحر يدفعه المواطن، مستثمراً في هذا التعليم بتأسيس المؤسسة التعليمية الحرة، ووكيلا يدفع مبلغا زهيدا شهريا لقاء تعليم ابنه وتأطيره في أحسن ظروف ممكنة وعلى أعين المتخصصين في كل فن، ولأن الوزارة الوصية تدرك ذلك فقد ساعدت التعليم الخصوصي في مرحلة الباكالوريا خلال عقود من الزمن بإعطاء المدرسة الحرة وحدها حق الولوج إلى استدعاءات التلاميذ لـتتمكن بذلك من ضمان حوقها المادية حتى يستمر وجودها بدفع مستحقات عشرات الموظفين من أعضاء هيئتي التأطير والتدريس وعمال دعم ومؤجرين، غير أن قرار الوزارة الأخير فرض تغيير نمط التعامل المتسم بالصبر على الوكيل حتى يأتي في وقت تسديد المستحق عليه مع نهاية الشهر.
المدرسة التي ذكرتم طلبت من تلاميذ الباكالوريا قبل نهاية العام بشهرين، وقد بلغت البرامج نهايتها أو أوشكت، طلبت دفع شهر أبريل الجاري في منتصف الشهر لا في نهايته، وهذا أمر مستساغ تماما ومقبول جداً، ولا يمت بصلة (لليبرالية البشعة) كما تفضلتم، فلو قيس دفع الوكيل القيمة الشهرية المترتبة على تدريس ولده في المدرسة الحرة، على تأجيره لمنزله، إذن لكان المؤجر الذي يطلب أجرة الشهر قبل وقتها ليبراليا بشعا، لأنه يطلب حق الإيجار مقدما، والمدرسة ثابتة والتلميذ متحول، وقد ساهمت الوزارة الوصية في قدرة التلميذ على الانسحاب من المدرسة – الحرة دون دفع رسومها بهذا القرار الأخير.
وجوه الفساد في البلاد كثيرة ومواطن الخلل جمة وللتعليم الحر حظه، غير أن معظم المدارس الحرة في أحيائنا الاجتماعية تتسم بحسن المعاملة والاستعداد للتفاوض مع خفض الجناح لذي العسرة، وفي الأحياء الراقية مدارس تفرض معظم رسوم السنة مقدما؛ ويدفعها الموريتاني خاضعا مكرها دون تعليق، وعند محاولة أخيه من بني جلدته حفظ حقه في مؤسسة تعليمية محلية، يستشيط غضبا ويطلب التخفيف.
كامل التناقض
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد قرار إداري مجحف من مدرسة حرة، بل هو انعكاس لبنية اجتماعية مأزومة، اختارت فيها الدولة أو من يديرها الانسحاب من أدوارها الجوهرية في الرعاية والتعليم والصحة، لتترك المواطن فريسة لعنف السوق وتوحش الرأسمالية. طرد التلاميذ بسبب عدم دفع الرسوم ليس حادثًا فرديًا، بل هو سياسة غير معلنة تُمارس عن وعي أو لا وعي، هدفها دفع الفقراء إلى أن يبقوا على ما هم عليه: منشغلين بالبقاء، خائفين من الغد، مقهورين في الحاضر، وعاجزين عن الحلم بمستقبل لأبنائهم.
لقد تحوّل التعليم من حق إنساني إلى سلعة، ومن أداة للترقي الاجتماعي إلى وسيلة للفرز الطبقي وإعادة إنتاج الفقر. هذا الطرد الجماعي لتلاميذ لا ذنب لهم إلا أنهم أبناء فقراء، يرسّخ شعورًا بالدونية، ويغرس بذور الحقد الاجتماعي، ويغلق أمامهم أبواب الأمل. وما يزيد الطين بلة هو تواطؤ الدولة، التي من المفترض أن تكون الحكم والراعي، فإذا بها تغيب عن الساحة، لا تسائل، لا تراقب، ولا تحمي.
إن هذه الممارسات لا تقتل الفقراء فقط، بل تضعف أجيالاً كاملة وتحاصرها بين خيارين قاتلين: إما الهروب إلى الخارج في قوارب الموت أو الانزلاق إلى أسواق الحشيش والانحراف والمخدرات التي تنتظرهم كبدائل مصطنعة للهروب من واقع لا يرحم.
إننا أمام مشروع تدميري ممنهج، يُفرغ الوطن من أبنائه، ويجعلهم زبائن دائمين في سوق الخضوع والاستسلام. لا نبالغ إذا قلنا إن المدرسة الحرة التي طردت أبناء الفقراء، لم تطردهم فقط من الفصل، بل من المستقبل.
قاسم صالح