مقالات وآراء

العسكريون االمتقاعدون — أرقاء في بلاطٍ إمبراطوري

العقيد المتقاعد محمد الشيخ إكريفه
المقدمة
أثار آخر تقرير صادر عن ديوان المحاسبة، رغم انحيازه، ناقوس الخطر بشأن سوء الحوكمة الذي يطبع العمل العمومي في جميع قطاعات النشاط في بلدنا.

لقد روى العسكريون المتقاعدون، شأنهم شأن زملائهم من العمال المتقاعدين في مؤسسات الدولة الأخرى، ترابَ وطننا بدمائهم وعرقهم طوال عقود من التضحيات والمعاناة.

غير أن هؤلاء المدافعين الأبطال عن الأمة وجدوا أنفسهم اليوم في وضعٍ لا يُحسدون عليه، وقد أُقصوا ليصبحوا في عداد المنتقدين للدولة التي خدموها بإخلاص.

وانطلاقًا من التحليل العميق الذي قدّمه زميلي وأخي العقيد السيد بيبكار، أحاول بدوري أن أستعرض بإيجاز أهم المشكلات التي يواجهها العسكريون المتقاعدون، ثم أقيّم المبادرات الحكومية الرامية إلى إدماجهم، قبل أن أقدّم بعض المقترحات التي من شأنها أن تعيد لهؤلاء الجنود موقعهم الطبيعي في مسيرة الوطن.

في الواقع، فإن عدد العسكريين الذين أحيلوا إلى التقاعد في تزايد مطّرد، وهو ما يجعل هذه الفئة من القوات المسلحة والأمنية تواجه مشكلات كبيرة تتعلق بظروف المعيشة، والمكانة الاجتماعية، والدور الحيوي الذي يمكن أن تضطلع به في تنمية البلاد، بفضل ما تمتلكه من رصيدٍ من الخبرات اكتُسب خلال مسيرتها المهنية.

إضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع سنّ الزواج (قرابة الأربعين عامًا)، نتيجة غلاء المعيشة في بلدنا — الذي يُعد من بين أغلى بلدان المنطقة — يُعد عاملًا مفاقمًا.

أما البذخ المفرط في حفلات الزواج، الذي سنّه أصحاب المال غير المشروع، فقد أسهم في ترسيخ هذه الظاهرة، إذ جعل من التباهي نموذجًا يُحتذى في مجتمعنا.

تبدأ الحياة الزوجية في سنّ متأخرة، فيكون عمر الطفل الأول بين 18 و20 عامًا عند بلوغ الوالد التقاعد، مما يبقي جميع الأبناء تحت كنف الأسرة.

راتب التقاعد بالكاد يغطي فاتورتي الماء والكهرباء، أما ثمن الأدوية ففاحش، وتنتظر سلةُ الدواء دورها في قائمة المصروفات الطويلة.

أما المأكل وسائر الحاجيات، فتنتظر أيامًا أفضل، بفضل ما يقدّمه بائع الحي من دَينٍ مؤقت.

هذا المشهد القاتم، وإن كان واقعيًا، يصوّر بدقة تفاصيل الحياة اليومية للعسكري المتقاعد.

هذا الوضع الهش يجعل هؤلاء الأشخاص فريسة سهلة لناهبي الحرية وكرامة الإنسان.

وممارسة الحقوق المدنية تمرّ بالضرورة عبر الاعتراف بهذه الحقوق واحترامها، رغم أنها مضمونة في جميع التشريعات. لكن، وللأسف، في مجتمعنا المادّي طغت المادة على القيم الأخلاقية.

وهكذا، وجد هؤلاء العسكريون الذين تربّوا على قيم التضحية والانضباط أنفسهم في وضعٍ ينتقص من مكانتهم الاجتماعية، ليغدوا بمثابة توابع في بلاطٍ إمبراطوري.

ولتدارك بعض هذه المشاكل، اتخذت السلطات إجراءات محدودة، منها إدماج بعض العسكريين المتقاعدين في شركات الحراسة.

غير أن هذه المبادرة لم تحقق الأهداف المنشودة، لا بالنسبة للمستفيدين ولا للمؤسسات التي يعملون بها، إذ إن المتقاعدين الذين عُيّنوا كحرّاس لم يعودوا يمتلكون المؤهلات البدنية المطلوبة، فكيف يمكن لمن بلغ الستين أن يقوم بمهام الحراسة وقد ضعفت رؤيته وسمعه وقواه الجسدية؟

الراتب الشهري لا يكفي حتى لتغطية تكاليف النقل والطعام والشاي أثناء الخدمة، خصوصًا أن معظمهم يسكنون في أحياء بعيدة.

باستثناء التكفل الجزئي بالعلاج للمتقاعدين وأسرهم، فإن باقي الإجراءات قد تُحدث نتائج عكسية.

أما النقابات أو الجمعيات التي أُنشئت تحت إشراف السلطات، فهي في الغالب مجرد واجهات سياسية هدفها إلهاء المتقاعدين عن مطالبهم الحقيقية.

إن هؤلاء الجنود القدامى الذين يعيشون حالة من الإحباط واليأس، يحتاجون إلى سياسة حقيقية ومدروسة تعيد دمجهم الفعلي في الحياة الوطنية.

ولتحقيق ذلك، يُستحسن إنشاء كتابة دولة مكلفة بشؤون المتقاعدين تتمتع بصلاحيات وزير.
كما يجب سنّ تشريعات تنظم هذا القطاع وتنص على الحلول العملية لمشاكله.

ينبغي تشجيع تنظيم هذه الفئة في مجموعات ذات مصالح اقتصادية أو تعاونيات زراعية ورعوية أو غيرها من الأشكال، لاستثمار مهاراتها المتعددة التي تُهدر مع مرور الزمن.

قال الكاتب أمادو همباطي با:
“عندما يموت شيخ إفريقي، تحترق مكتبة بأكملها.”
من هنا، فإن إنشاء مشروعات صغيرة في مجالات الزراعة والرعي والصيد من شأنه أن يستفيد من الخبرات المكتسبة أثناء الخدمة العسكرية — في إدارة الموارد البشرية، والتخطيط، وتنفيذ المشاريع، والإشراف الإداري واللوجستي، وغيرها — كما يمنح المتقاعدين فرصة لامتلاك الأراضي والمساهمة في التنمية الوطنية بتكلفة محدودة وبنتائج مثمرة للجميع.
فالمتقاعدون ليسوا سوى الجنود الذين كانوا بالأمس في ساحات الشرف.
وخلال زيارة إلى مدرسة الأركان في “سومير” بفرنسا، لوحظ أن مدير الدراسات وحده كان في الخدمة، أما بقية الطاقم فكانوا ضباطًا متقاعدين بزيهم الرسمي.

الخاتمة

إن فئة العسكريين المتقاعدين — وهم آباؤنا وأمهاتنا وإخوتنا وأخواتنا — الذين أفنوا أعمارهم في سبيل أمننا وسلامنا، تستحقّ منا كل تقدير ورعاية من جميع أصحاب القرار.

إن تنظيم واستثمار الكفاءات والخبرات التي يملكها هؤلاء الجنود القدامى أمرٌ ضروري لتحقيق أهداف التنمية والاكتفاء الذاتي من جهة، وتمكين المتقاعدين وأسرهم من الاندماج في الحياة النشطة للأمة من جهة أخرى، بعد أن وجدوا أنفسهم على هامشها.

كما أن قيمنا الدينية وتراثنا الثقافي يؤكدان على احترام الكبار.
يقل جلّ من قائل:

﴿وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ صدق اله العظيم
العقيد المتقاعد محمد الشيخ إكريفه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى