مقالات وآراء

اغتيال الصحفيين في غزة.. جريمة متجددة في سجل استهداف الإعلام

تماد إسلم أيديه
في مشهد بات مألوفًا في قطاع غزة، قُتل مساء الأحد 10 أغسطس 2025، أربعة من الصحفيين الفلسطينيين، في قصف مباشر استهدف خيمة للصحفيين قرب مستشفى الشفاء بمدينة غزة. الهجوم، الذي نفذته طائرة مسيرة إسرائيلية، أودى بحياة مراسلي قناة الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع، إلى جانب المصورين إبراهيم ظاهر، محمد نوفل، ومؤمن عليوة، بينما كانوا يؤدون واجبهم المهني في نقل حقيقة ما يجري على الأرض.

الحادثة التي أثارت موجة غضب واسعة في الأوساط الإعلامية والحقوقية، أعادت إلى الواجهة مجددًا السؤال المؤلم: هل أصبحت الكاميرا تهمة تستوجب الإعدام؟

الصحافة تحت النار: استهداف متعمد أم “خطأ مشروع”؟

لم تمر ساعات على الهجوم حتى أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي بيانًا اعترف فيه صراحة باستهداف الصحفي أنس الشريف، زاعمًا أنه “ينتمي لحركة حماس” ويتخفى بصفة صحفي. هذا التصريح، الذي جاء دون تقديم أدلة، لم يُفهم إلا كتبرير مسبق ومكرر لسياسة التصفية التي تتبعها إسرائيل بحق الإعلاميين الفلسطينيين منذ بداية الحرب.

لم يكن أنس الشريف اسمًا عابرًا في التغطية الميدانية. على مدار أشهر الحرب، نقل الشريف، بعدسته وصوته، صور المجاعة، القصف، النزوح، ودمار البيوت والمستشفيات. ظهوره المتكرر على شاشة الجزيرة وهو يغطي الفظائع في شمال غزة، جعله عرضة لحملة تحريض علنية في وسائل الإعلام الإسرائيلية، انتهت كما كان متوقعًا: بتصفيته.

الحصيلة بعد هذه الحادثة تصل إلى 238 شهيدًا من الصحفيين

بحسب إحصاءات نقابات الصحفيين والمؤسسات الحقوقية الدولية، والمكتب الإعلامي بغزة،ارتفع عدد الصحفيين الذين قُتلوا في غزة منذ اندلاع الحرب إلى 238 صحفيًا، معظمهم سقطوا في قصف مباشر لمنازلهم أو أماكن عملهم، وبعضهم كان يرتدي زيًا واضحًا يحمل شارة “صحافة”.

ويؤكد هذا الرقم المؤلم أن استهداف الصحفيين لم يعد مجرد “أضرار جانبية”، بل سياسة ممنهجة لإسكات الصوت وتعتيم الصورة، لا سيما في ظل التغطيات المتواصلة للكارثة الإنسانية في القطاع المحاصر.

حماية الصحفيين: قوانين بلا حماية

تشير المواثيق الدولية، وعلى رأسها اتفاقية جنيف الرابعة، إلى أن الصحفيين العاملين في مناطق النزاع يتمتعون بوضع خاص يحظر استهدافهم، ما لم يشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية. لكن الواقع في غزة يكشف عن فجوة واسعة بين النصوص القانونية والممارسات الميدانية، إذ يتحول الصحفي الفلسطيني إلى هدف مشروع لمجرد حمله كاميرا أو وقوفه في موقع الحدث.

البيانات التي تصدرها إسرائيل بعد كل استهداف باتت تتبع نمطًا متكررًا: “تم استهداف عنصر إرهابي متنكر كصحفي”، ما يثير مخاوف حقيقية من توظيف “أمن الدولة” كذريعة لتبرير انتهاكات خطيرة ضد حرية الصحافة، دون محاسبة أو مساءلة.

موقف المجتمع الدولي: صمت متواطئ؟

رغم الإدانات الخجولة من بعض المنظمات، مثل “مراسلون بلا حدود” و”لجنة حماية الصحفيين”، إلا أن الرد الدولي العام على هذه الجرائم لا يزال دون الحد الأدنى المطلوب،الصمت المتكرر، والتقاعس عن التحقيق الجاد في هذه الانتهاكات، يعزز مناخ الإفلات من العقاب، ويشجع الاحتلال على المضي في استهداف من ينقلون الحقيقة.

في الختام: الكاميرا لا تُقتل

مجزرة خيمة الصحفيين قرب مستشفى الشفاء، لم تكن فقط هجومًا على أشخاص، بل محاولة لاغتيال الصورة، الكلمة، والرواية الفلسطينية، لكنها، في الوقت نفسه، شهادة على شجاعة جيل من الصحفيين الفلسطينيين الذين يواصلون نقل ما يجري رغم كل التهديدات، مدفوعين بإيمانهم بأن الحقيقة لا تموت وإن سقط حاملوها.

لقد وصل عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين استُشهدوا منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة حاجز 238 صحفيًا، وهو رقم صادم يعكس حجم الخطر الذي باتت تواجهه مهنة الصحافة في مناطق النزاع، لا سيما تحت الاحتلال.

هذا الرقم لا يمثل فقط خسارة فادحة للمشهد الإعلامي الفلسطيني، بل يمثل كذلك فشلًا دوليًا ذريعًا في حماية الصحفيين وضمان حق الشعوب في المعرفة.

في غزة، كما في كل ساحات الصراع، تظل الكاميرا أقوى من الرصاصة، والصوت الحر أبقى من صدى القصف. قد يُقتل الصحفي، لكن ما وثقه سيبقى شاهدًا، وما رواه سيتحول إلى ذاكرة جماعية لا يمكن محوها. فالحقيقة، وإن جرى قمعها مرارًا، تعرف طريقها دائمًا للخروج إلى الضوء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى