أبو عبيدة(2): حين يتحوّل الاسم إلى رسالة والناطق إلى مؤسسة

لم يكن الظهور الأول للناطق الجديد باسم كتائب عزّ الدين القسام حدثًا إعلاميًا عابرًا، ولا مجرد تعويض شكلي عن استشهاد المتحدثالتاريخي حذيفة سمير عبد الله الكحلوت، المعروف بـ«أبو عبيدة». بل جاء محمّلًا بدلالات رمزية وسياسية ونفسية عميقة، فجّرت موجة واسعةمن الجدل والتأويل على منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا عقب بث التسجيل عبر قناة الجزيرة مساء أمس.
الاسم… حين تتجاوز الكنية صاحبها
لم يكن اختيار الاحتفاظ بالكنية نفسها «أبو عبيدة» مصادفة، ولا قرارًا عاطفيًا محضًا، بل رسالة واضحة مفادها أن الشخص قد يُستهدفويُستشهد، أما الاسم فهو ملك للمقاومة. هنا تتحوّل الكنية إلى هوية مؤسسية لا ترتبط بفرد، بل بمسار وخطاب وعقيدة.
لم يعد «أبو عبيدة» رجلًا بملامح وصوت فحسب، بل أصبح رمزًا ممتدًا، أشبه براية تُسلَّم من جيل إلى جيل، في تأكيد عملي على أنالاغتيال لا ينجح في كسر السردية، ولا في إسكات الصوت.
نبرة الخطاب… ثبات بلا استعراض
اللافت في الظهور الأول لـ«أبو عبيدة (2)» هو الحرص الواضح على الاقتراب من النبرة المعهودة: لغة مقتضبة، إيقاع هادئ، جملمحسوبة، وخطاب يخلو من الانفعال الزائد أو التهديد الاستعراضي. هذا التشابه لم يكن تقليدًا شكليًا بقدر ما كان استمرارية مقصودة،توحي بأن الخطاب لم يتغير لأن المرجعية واحدة، وأن المتحدث — مهما كان اسمه الحقيقي — يلتزم بالنص السياسي والعسكري ذاته.
الرسائل الكامنة وراء الظهور
يحمل هذا الظهور جملة من الرسائل المتداخلة:
- للعدو: اغتيال الناطق لا يعني إسكات القسام، ولا تعطيل خطابها، ولا إرباك بنيتها التنظيمية.
- للجمهور الفلسطيني: القيادة حاضرة، والخطاب متماسك، وسلسلة القرار لم تنكسر.
- للحاضنة الشعبية العربية: المقاومة لا تُدار بعقلية الفرد، بل بمنطق المؤسسة طويلة النفس.
- للإعلام: القسام تدرك قوة الصورة والصوت، وتتعامل مع الإعلام كساحة مواجهة لا تقل أهمية عن الميدان.
الجدل على منصات التواصل… بين الرمز والإنسان
الجدل الذي أعقب بث التسجيل انقسم بين من رأى في «أبو عبيدة (2)» محاولة لنسخ الشخصية السابقة، ومن قرأ الأمر بوصفه ذكاءًرمزيًا عالي المستوى. انشغل البعض بالفروق الصوتية، وآخرون بطريقة الإلقاء، فيما ذهب تيار ثالث إلى اعتبار الجدل نفسه جزءًا من المعركةالنفسية، التي تُبقي اسم «أبو عبيدة» حاضرًا في الوعي الجمعي، سواء بالاتفاق أو الاختلاف.
الخلاصة
في المحصلة، لا يمكن قراءة ظهور «أبو عبيدة (2)» خارج سياق المعركة الشاملة على الوعي والرمز والمعنى. فالقسام لم تقدّم ناطقًا جديدًابقدر ما قدّمت دليلًا حيًّا على أن مشروعها الإعلامي جزء لا يتجزأ من عقيدتها القتالية. إن إعادة إنتاج الاسم، وضبط النبرة، والتحكم فيالتوقيت، كلها عناصر تؤكد أن الرسالة أهم من حاملها، وأن الرمز حين يُحسن بناؤه يصبح أقوى من الرصاص، وأعصى على الاغتيال.
وبينما ينشغل الخصوم بتفكيك الصوت والملامح، تكون القسام قد حسمت المعركة الأهم: إبقاء «أبو عبيدة» حاضرًا بوصفه عنوانًا للثبات، لامجرد ذكرى لشهيد. وهنا تتجلى الفكرة الأخطر في هذا الظهور: أن المقاومة لا تكتفي بالصمود في الميدان، بل تنتصر أيضًا في إدارةالذاكرة والمعنى.
تماد إسلم أيديه
صحفية وباحثة موريتانية







