المسلمون، وعودة الاسئلة الجوهرية..!! / أحمد حمنيه

في مختلف الازمنة والعصور، كان المسلمون يواجهون تحديات واشكاليات كثيرة ،سياسية ،وفكرية ثقافية وعسكرية واقتصادية، وحضارية، ، بدء باستشهاد الخليفة الراشد ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وماسببته تلك الحادثة المأساوية من فتن واحداث كبرى في صدر الاسلام ، مرورا بدخول شعوب وأمم جديدة الى الدين الاسلامي ومانتج عن ذلك من بروز اشكاليات فكرية جديدة تتعلق خاصة بالعلاقة ما بين العقل والنص..مرورا بالحروب الصليبية والغزو التتري، واشكاليات النهضة الحديثة وسؤالها الجوهري “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”..
في العصر الحديث جاءت اشكاليات وتحديات جديدة كان من اهمها وقوع العالم الاسلامي ضحية للاستعمار الاوروبي، وبعد ذلك، صعود ظاهرة الاسلاموفوبيا في الغرب، والنظر الى المسلم ككائن عنيف منبوذ، بالاضافة الى انتعاش الطائفية، واللعب على اوتار التفرقة المذهبية..وكل هذه التحديات اخذت حيزها ضمن النقاشات الفكرية وحتى السياسية في العالم الاسلامي ، لكن هناك تساؤل جوهري، ربما غاب عن التداول، فلم يبرز بشكل قوي على الاعلام خاصة في مرحلة مابعد ظهور “الصحوة”.. وهو لماذا نشاهد تلك العلاقة المعاكسة بين مساري الاسلام الفردي الشعائري الطقوسي ان صحت التسميات، وبين قوة الفعل الحضاري للمسلمين، او بين الاسلام الفردي الشعائري، وبين الاسلام الحضاري الشامل؟..وكيف نوظف ازدهار احدهما لصالح الآخر؟…
حين نعود الى الواقع اليوم نجد ان الاسلام كمظاهر وشعائر وعبادات، يحضر بشكل جيد على الساحة العربية والاسلامية..لقد انتشرت مظاهر التدين من مساجد وصلاة وصيام وحج ومحاظر ولباس شرعي ولحى ونقاب وجمعيات خيرية دينية ومنظمات دعوية، بشكل كبير مقارنة بالماضي..وفي نفس المنحى نشاهد انتشارا كبيرا للدين الاسلامي في بلدان اوروبا وامريكا وافريقيا، وهناك تقارير تشير الى ذلك..بمعنى ان الاسلام كعقيدة وشعائر يشهد نهضة، في حين نشاهد تراجعا وانحسارا مريعا للاسلام الحضاري، ولقوة الفعل الحضاري للمسلمين، سياسيا وثقافيا واقتصاديا وعلميا وعسكريا..الخ
سياسيا، نجد الكثير من الاقطار العربية المسلمة محتلة، القلاع الحضارية الرئيسية والتاريخية قد سقطت او تداعت، بدء بفلسطين ، مسرى الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، حيث المسجد الاقصى المبارك اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وكان تعامل العالم الاسلامي سواء بمركزيته العربية اواطرافه الاسلامية الاخرى ، هو تعامل فاتر مع هذه القضية. انها تشهد واحدة من احلك فتراتها..العراق الذي كان فاعلا حضاريا، واراد الخروج من النفق، تم احتلاله، واسقاط نظامه الذي كان سائرا في فلك الممنوع الغربي، وتم استبداله بديمقراطية غربية ضعيفة حريرية الملمس..سوريا يتم تمزيقها بحرب اهلية منذ 15 سنة، بعد ان كانت قلعة لدعم جميع المقاومات العربية والاسلامية ..لبنان ضائع بين التآمر على مقاومته، وتفكيك نسيجه الاجتماعي بالمذهبيات… مصر مكبلة باتفاقية كامب ديفيد التي اخرجتها من اطار الفعل والتحرك..بلاد الحرمين التي تنظم الحج والعمرة تدفع الجزية صاغرة لحكام امريكا والغرب، وتعبئ خزائن البنوك الغربية بصفقات السلاح المهترئ..وكذلك بقية محميات الخليج، التي جعلت جزيرة رسول الله صلى عليه وسلم وكرا للقواعد العسكرية الامريكية..المغرب العربي خاضع لسيطرة ثقافية فرنكفونية، يسعى بعض بلدانه للتخلص منها..تركيا دولة علمانية غربية لم تستطع ان تخرج من صندوق الحضارة الغربية..باكستان منكفئة بشكل فردي على نفسها…الخ، وعلى العموم فالموقف السياسي الاسلامي مفكك ومهترئ وغائب…
عسكريا، نجد عالما اسلاميا يملك ترسانات عسكرية ضخمة منها ماهو نووي، لكنه مكبل بالاتفاقيات والتنظيمات الاقليمة وحتى التحالفات العالمية المعادية المسلمين( تركيا مثلا عضو في حلف الناتو ) والبقية بين مقسم بين الطائفيات والمذهبيات والعمالة، وبالتالي فهو عالم اسلامي مهزوم عسكريا ومقدساته محتلة من قبل دول قزمة…ان الطائفية لعبت دورا كبيرا في هزيمة الاسلام الحضاري، من خلال الاحتكار الحصري للحق والحقيقة، فكان التشتت المذهبي أقوى سيف مسلط على الأمة..
فكريا، يوجد رقم كبير من المثقفين والمفكرين والعلماء المتنورين، لكن المسلمين مهزومون فكريا في مواجهة ليبرالية علمانية حياتية فرضت واقعها على جميع الدول الاسلامية ..
علميا يتأخر المسلمون، في الابتكار والانتاج والصناعة، ورغم وجود استثماءات قليلة فهي منعزلة عن نطاقها الاسلامي وعاجزة عن تحويلها وتوظيفها في اطار الفعل الحضاري الاسلامي الشامل..
وهكذا نجد السؤال الجوهري الذي يأتي بصيغ مختلفة: كيف يتلاءم التمدد المتواصل للمسلمين كعدد وشعائر وطقوس، وانحسارهم كحضارة؟ وماهو مفهوم “عزة الاسلام” وحضوره الطاغي هل هو بالشعائر والالتزام الديني، ام بقوة الفعل الحضاري ومنعته امام الاعداء..؟ وكيف نكتسح المساجد بصفوف المصلين، في حين يقبع احد اهم مساجدنا، ومايملكه من رمزية، تحت قبضة اليهود ؟.. وكيف نتعامل مع تصنيفات وصرخات الفلسطينين اننا احد اسوأ اجيال الاسلام، رغم هذا الالتزام الديني الكبير؟ هل المشكلة من عقلية الصحوة التي هندست هذا النمط من الالتزام الديني دون تكوينه وتأطيره على ضرورة خلق انسان مسلم حضاري مساهم في بناء امته وعزتها ؟ هل للاعداء دور في صناعة اسلام فردي ليبرالي طقوسي منزوع الدسم، يركز على الاستهلاك و شراء السجادات والجلابيات والسبحات و وتأثيث المساجد ، ويهمل الجانب الحضاري الشامل للاسلام؟…
ان نزع الصفة الحضارية عن الدين الاسلامي، وتحويله الى طقوس فردية، سيجعل من عزته التي نريد امرا مستحيلا. وهذا النمط من الاسلام لن يستطيع ان يحرر ارضا ولاينقذ مسجدا ولن يهدي العالم، حتى لو دخلت فيه الكرة الارضية كلها. ان تباهينا بجموع المسلمين وهي تكتسح اوروبا، وبصفوف المصلين وهي تحتشد في ساحة “تايم سكويرز” في صلاة التراويح بنيويورك ، في حين ان نيويورك نفسها تحول اطفالنا الى اشلاء ، وافتخارنا بملايين الحجاج والمعتمرين في دولة منزوعة السيادة تدفع الجزية للصليبيي الجديد في البيت الابيض ، دليل على ان هناك خلل ما..وان هذا النمط السائد من الاسلام الفردي العلماني الذي يؤسس لما يعرف عند اللائكيين بالعلاقة العموية بين الانسان والخالق، يتصالح جدا مع العقلية الغربية ومع النظام العالمي الجديد القائم على حرية السوق ..
لقد قرر العالم الغربي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي اتخاذ الاسلام كعدو بديل للشيوعية، فالاسلام الذي يحمل منظومة حضارية متكاملة كان وحده القادر على ضرب الغرب ومنظومته الفكرية. ظهرت تلك الكتابات بعد حقبة طويلة من المهادنة “الظاهرية” للاسلام خلال الاستقطاب العالمي في الحرب الباردة، او حتى محاولة استمالته و اتخاذه كحليف..كان الغربيون يعزفون على اوتار الفهم القاصر، لبعض التيارات السلفية السطحية، فتقمصوا في الحرب الباردة، ثياب “اهل الكتاب” الذين يواجهون “ملاحدة” الاتحاد السوفييتي.نتج عن ذلك التقارب المفتعل، استخدام الامريكيين للجهاديين العرب والزج بهن في حرب افغانستان..وحين سقط الاتحاد السوفيتي أظهر الغرب وجهه الحقيقي المعادي للمسلمين، ظهر ذلك ،فكريا من خلال كتابات فلاسفة الغرب، صامويل هنتغتون..فوكوياما، وغيرهم ، وكانت كل افكارهم تركز على الصدام الحضاري بين الاسلام والغرب، والتبشير بانتصار الليبرالية الامريكية وانسانها الاخير . ومن خلال التحرك العسكري ضد البلدان الاسلامية، فتم غزو افغانستان والعراق ومساندة اسرائيل المجرمة في حروبها ضد العرب..لقد ظهر انه العدو الاقبح والاخطر ضد الاسلام والمسلمين..
ان استهداف الاسلام من قبل الغربيين تقف خلفه فكرتين مختلفتين: احداهما ليبرالية استعمارية ،حاولت تقديم الاسلام كعدو بديل للشيوعية ، فهو يقف عائقا حسب نظرهم ضد المنظومة الحضارية لمايسمى العالم الحر ، ونظامه الديمقراطي وقيمه التنويرية. اما الخلفية الاخرى فهي دينية مسيحية صهيونية تمثل المحافظين الجدد ..ولقد اقتسم الامريكيون والغرب هذه النغمة بنفس الانقسام السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين..
اما عداء أمريكا والغرب للاسلام فينطلق من سببين رئيسيين:
اولا لان الاسلام لعب اكبر الادوار في تأجيج روح مقاومات الشعوب العربية والاسلامية، وثورتها على قوى الاستعمار الغربية، انطلاقا من قيم الجهاد ومقاومة الظلم والعدوان، اضافة الى شقه الثقافي المعادي للطمس والتغريب الذي جاء به الاستعمار..
ثانيا وهو الاهم: وهو التهديد الحضاري البديل: ان الاسلام دين شمولي وليس شعائري فقط، وهو يملك منظومة قيمة شاملة للحياة، ومنهج حياة متكامل، جعله يقف معاديا لكل قيم اللائكية الليبرالية الحياتية التي تهدف الى خلق مجتمعات ليبرالية بحتة مقطوعة الصلة بقيمها الروحية وجذورها الحضارية، حتى تكون متماشية مع جوهرالحرية الفردية من المنظور الليبرالي ومتفقة مع آليات نظام السوق..
ولذلك فتجريد الاسلام من أدوات قوته ومنعته الحضارية، ستغيب معها اسباب العزة ويستمر الانحسار الحضاري..
إن المفارقة التي يعيشها المسلمون اليوم، بين التوسع في مظاهر التدين والتراجع الحضاري والسياسي، تمثل تحديًا كبيرًا يتطلب التأمل وطرح الاسئلة والتفميز الجاد في كيفية التغيير. لا يمكن أن يستمر الإسلام كدين ينتشر فقط في صفوف الأفراد، دون أن يتحول إلى مشروع حضاري جماعي، يحقق اهدافه الشاملة، ويحافظ على مقدساته ويحرر بلدانه ويهزم اعداءه ويفرض اشعاعه الحضارية كما كان..
ان الإسلام ،كفضاء روحي واخلاقي وتشريعي يحمل في طياته بذور وإمكانيات هائلة للنهوض الحضاري .لابد من عصف ذهني كبير يجيب على الاسئلة الجوهرية ،ويبحث في مراجعة الوعي والفهم والعودة الى جوهر الدين وشموليته ومفاهيمه الغائية ، لكي نستعيد الربط بين العبادة والعمل، وبين الإيمان والإنتاج الحضاري..
لقد حان الوقت لأن يعود المسلمون كجزء اصيل من النهضة الحضارية، لا مجرد مراقبين لها.